بقلم د. أحمد شعبان - الإمارات العربية
كشف الحقيقة بغية الوصول إلى مرتكب الفعل المخالف للقانون هو غاية وهدف رجال التحقيق والقضاء لإرساء الأمن والاستقرار في المجتمع من جهة، وتقديم المتهم إلى العدالة من جهة أخرى. فمهام رجال التحقيق تنحصر في جمع ما يتركه الجاني من آثار تدل عليه أو تساعد في الاهتداء إليه، بالإضافة إلى معرفة أسلوب الجريمة وما يتعلق بتنفيذها وما يستنتجه المحقق عنها، وهي من الآثار التي يمكن أن يتركها الجاني في مسرح الجريمة والأدلة الأخرى المباشرة وغير المباشرة التي من شأنها أن تولد لدى قاضي الموضوع قناعة لنسبة الفعل إلى الفاعل المتهم في القضية من عدمه.
ومن الأدلة التي حددها القانون شهادات الشهود ومحاضر التحقيق والكشوف الرسمية الأخرى وتقارير الخبراء والفنيين والقرائن والأدلة الأخرى المقررة قانوناً، والاعتراف، حيث أنه يعتبر من أهم أدلة الإثبات على مر العصور وحتى عهد قريب، لأنه يولد قناعة قوية لدى قاضي الموضوع، فيمكن ان يصدر قراره بالاعتماد عليه وحده، لأن شهادة المرء ضد نفسه لا يساور القاضي الشك فيها. ولأجله اعتبر البعض الاعتراف سيد الأدلة أو ملكها، الأمر الذي دفع رجال التحقيق والقضاء الاعتماد عليه بصورة عامة وإصدار القرارات بضمير مستريح. وانطلاقاً من ذلك، يعمد البعض إلى الأدلة انتزاع الاعتراف بوسائل غير إنسانية إذا أصر المتهم على الإنكار ولم تنهض الأخرى ضده، حيث إن التعذيب في عصر من العصور اعتبر من الطرق المكملة لإجراءات التحقيق واللازمة فكانت الشرائع العراقية القديمة والفراعنة في مصر والشرائع القديمة في اليونان والرومان وغيرها، تعتمد على الاعتراف كدليل إدانة، ولكن وفق طقوس دينية يتولاها الكهنة.
وقد حرمت الشرائع السماوية وخاتمتها الشريعة الإسلامية الإكراه أو أي وسيلة غير مشروعة لانتزاع الاعتراف (الإقرار كما اصطلح عليه الفقه الإسلامي).
ولهيمنة رجال الإقطاع والكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى، ولضعف الوازع الديني وعدم احترام الإنسان ككائن بشري، ولسيادة نظام الأدلة القانونية والتي تحدد القاضي بأدلة قانونية حصرها القانون حصراً حيث سلبه حق الاقتناع بها من عدمه، فقد عد الاعتراف هو الدليل الوحيد المعول عليه والذي لا يمكن أن يطاله الشك، كونه صادراً من ذات المتهم، ولا يمكن أن يظلم الشخص نفسه فعليه وحده يصدر القاضي القرارات التي تتلاءم وجسامة الجريمة ولا يد للقاضي في تلك القرارات مهما كانت قاسية.. ونتيجة الآثار الشائنة التي خلقها الإكراه بشأن إلصاق التهم بالأبرياء واعترافهم بها، فقد انتشرت آراء مفكري الثورة الفرنسية وبعض الكتاب، وبدأت المناداة بحقوق الإنسان إلى أن ألغيت بعض العقوبات وألغي التعذيب كإجراء تحقيقي رسمي، ونصت الدساتير الفرنسية المتعاقبة على تحريم القسوة مع المتهمين عند التحقيق معهم مع وجوب احترام كرامة الإنسان، ومعاملته معاملة إنسانية باعتباره بريئاً لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
ولأهمية الاعتراف باعتباره الدليل الذي يمكن للقاضي أن يبني قرار الإدانة عليه إذا اطمأن إلى صحته ولغرض بيان الاعتراف الصحيح الصادر عن إرادة حرة عن غيره من الاعتراف الصادر عن إرادة مكرهه نتيجة لوجود عيوب يمكن اللجوء إليها لإصابة الإدارة والإدراك والتأثير عليه، فقد اخترت موضوع جدلية الاعتراف المعيب في الدعوى الجنائية لتسليط الضوء عليه دون التعمق في مخرجاته.
الوسائل والعوارض التي تفقد الإرادة
الإرادة هي مناط كل تصرف، إذ يجب أن يكون التصرف صادراً عن إرادة حرة دون أي شكل من أشكال التأثير عليها، ولاسيما في التصرفات التي تلحق بصاحبها عواقب مثل الاعتراف في الجرائم المنسوبة للمتهم، فعندئذ ينبغي أن تكون الإرادة سليمة وبعيدة عن كل ما ينقصها أو يخل بها من وسائل الإكراه أو الضغط النفسي أو التهديد ضد نفس أو مال المتهم أو عائلته أو وعده أو وعيده أو إغرائه أو إخضاع المتهم لوسائل علمية تفقده إرادته أو اختياره ويخرج عن صمته ويعترف بالجريمة دون رضاء أو اختيار منه.
مفهوم الإكراه
الإكراه لغةً: المشقة. يقال قام على كره، أي على مشقة. وقام فلان على كره، أي إكراهه على القيام.
والإكراه اصطلاحاً: هو فعل يفعله الإنسان بغيره فيزول رضاه أو يفسد اختياره. أو ما يفعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه. أو أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه وغلبت على ظنه انه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه، أو أنه عبارة عن قوة من شأنها أن تشل إرادة الشخص أو تقيدها إلى درجة كبيرة تمنعه من أن يتصرف وفقاً لما يراه، وهو حمل الغير على إتيان ما يكره.
والإكراه قانوناً: هو قوة مادية أو معنوية تكره الشخص على ارتكاب الجريمة، دون ان يكون في استطاعته دفعها.
الإكراه المادي
ينصرف مدلول الإكراه المادي في إطار التشريع الجنائي إلى وجود قوة مادية تسيطر على إرادة الشخص وتوجهها نحو ارتكاب الجريمة، ومن شأنها أن تعدم إرادته بشكل مطلق.
وفي إطار اعتراف المتهم يمكن القول وبشكل عام: إن اي مؤثر خارجي يسلب المتهم إرادته يجعل الاعتراف غير إراديا، وبالتالي معيبا، وتقدير ذلك متروك لمحكمة الموضوع في ضوء ظروف وملابسات الواقعة. ويأتي الإكراه المادي في مقدمة مثل هذه المؤثرات الخارجية، ولكن يجب ان تتوافر الشروط الأتية لقيام الإكراه المادي في هذا المجال:
أولاً: حصول القوة المادية الموجهة إلى الشخص.
ثانياً: أن تكون تلك القوة صادرة من شخص له سلطة وله القدرة عليها.
ثالثاً: انعدام الإرادة.
رابعاً: وجود العلاقة السببية بين الاعتراف والإكراه الحاصل.
الإكراه المعنوي
الإكراه المعنوي يفترض مخاطبة الإرادة والتأثير فيها وتوجيهها الى الغاية التي يريدها من صدر عنه الإكراه المعنوي، وبالتالي فإن ما يميز هذه الصورة للإكراه هو أن مصدرها يكون دائما انسان. ويتخذ الإكراه المعنوي أو التأثير الأدبي صوراً متعددة ومتباينة، فالوعد والوعيد والإغراء وإطالة أمد التحقيق المطول والتوقيف وغيره من الوسائل، نماذج من هذا الإكراه ، وما كتبه القاضي الأمريكي جيروم فرانك لهو خير تفسير لمدى تأثير ذلك على الشخص بقوله أنه ليس ذي أهمية عدم وجود قسوة بدنية لأن الأذى النفسي ربما يكون أكثر قسوة ودلالة من القوة المادية، فمن يطبق الضرب يسلم للإجهاد، أما بقاء الفرد يقظاً لما وراء مرحلة الإعياء الشديد أثناء توجيه الأسئلة المستمرة إليه لهو إهانة له ونزعاً للكرامة الإنسانية وحرماناً من إرادة المقاومة وصيرورته مخلوقاً يرثى له وبالتالي مغلوباً برغبة منفردة وذلك في سبيل الخلاص من التعذيب البدني، أن العقاب النفسي أكثر تأثيراً من الاعتداء البدني، إنه لا يترك آثاراً على الضحية ولهذا فهو السلاح المفضل للبوليس. وضماناً للمتهم من الإكراه النفسي حظرت المحكمة على البوليس استجواب المتهم الخاضع للإكراه النفسي).
ولتوفير الإكراه النفسي يستلزم توافر الشروط التالية:
أولاً: أن يكون تأثير الإكراه دنيوياً.
ثانياً: أن يكون صادراً من شخص ذي سلطة.
ثالثاً: وجود العلاقة السببية بين الإكراه والاعتراف.
وفي الختام
تجدر الإشارة الي ان هناك مجموعة من الوسائل والعوارض التي تجعل من اعتراف المتهم معيبا ولا يصح الاستناد اليه كدليل إثبات في الدعوى الجنائية، من هذه الوسائل ما يعدم الإرادة كالإكراه المادي والمعنوي واستعمال العقاقير المخدرة والمسكرات. ومنها ما يضعف الإرادة كأجهزة كشف الكذب واستخدام الكلاب البوليسية
كان التعذيب الجسدي على رأس الوسائل للحصول على الاعتراف وأقدمها تطبيقاً، ونتيجة التطور الكبير في العلوم فقد كان لتطور العلوم والوسائل المستعملة لانتزاع الإكراه أثره البالغ في انتشار مثل تلك الوسائل والالتجاء إلى استعمالها في التحقيق، ومهما تنوعت وتغيرت الوسائل العلمية الحديثة أو الوسائل القديمة فالهدف واحد بالنسبة لها جميعاً وهو التأثير على إرادة المتهم لغرض الحصول على الاعتراف سواء كان الاعتراف صحيحا أم معيبا.
إن أهم وسيلة من شأنها أن تؤثر في الإرادة تأثيراً مباشراً وتعدمها هو الإكراه بنوعيه المادي والمعنوي، فهذه الوسيلة وإن كانت قديمة جداً، إلا انها لازالت الوسيلة الأكثر فاعلية والأكثر تطبيقاً في البعض من الدول مع ما طرأ عليها هي الأخرى من تحسن وابتكار وسائل تعذيبيه جديدة أكثر مساساً بالأفراد.
إن اللجوء الى استعمال الإكراه لانتزاع الاعتراف لم تعد مقبولا تماماً لتعارض ذلك أبسط مبادئ الأخلاق والقيم الإنسانية وكرامة بني البشر، فالدليل المستمد على باطل فهو مع من هذه الوسيلة غير مقبول أيضا تأسيساً على مبدأ ما بني باطل.