recent
أخبار اليوم

حديقة الحيوان والحلم الأمريكى _ جريدة اللواء العربى






د. حســام عطـــا
كان الدرس الأكثر أهمية الذى لم تذكره كتب الإخراج المسرحي إلا نادرا، والذى هو درس عابر فى بعض أمهات الكتب في علم النقد، والذى ردده كبار المخرجين وكبار الكتاب الصحفيين على مدار مسارى المهنى، هو تأمل الناس ومتابعة الواقع اليومى.
إذ لا يمكن للكاتب أن يكتب ولا الفنان المبدع يستطيع الإبداع، إلا وهو يتأمل الناس والأماكن.
إنهم البشر، الناس في بلادى، أراقب سلوكهم بحكم المهنة وأتأملهم بكل حب وأفهمهم بكل إحترام.
وقد أورثتنى هذه العادة التى أصبحت سلوكا يوميا لا إراديا، نوعا من المسافة بينى وبين المتع الصافية فى الممارسات الإجتماعية الإعتيادية.
وقد إستجبت فى إجازة عيد الأضحى المبارك ٢٠٢٢ الطويلة لدعوات إجتماعية على العشاء مع وجود الموسيقى والغناء، ولأفراح أنجال الأصدقاء.
بل وأتممت الجولات الإجتماعية بقبولى دعوة صديق لزيارة حديقة الحيوان بالجيزة.
وتأملت الحديقة كعادتى فاقدا لبهجة الإستجابة لمتعة الحنين إلى الشباب الباكر، وقت أن كانت الحديقة هى الملاذ الذي ألجأ إليه مع حبيبتى الجميلة.
ورحت أحاول إستعادة الذكريات فكانت الصدمـــــــة الكبـــرى.
ماذا جرى لحديقة الحيوان بالجيزة؟
ماذا جرى لسلوك البشر؟
البسطاء في بلادى لهم أماكن للمتعة منها الحديقة، ولكن ماذا جرى فى السلوك، ماذا جرى فى إختيار شكل الملابس؟ ماذا جرى فى طاقة الناس وفى ملامحهم، ما هذه الموسيقى والأغاني الضالة التي تنبعث من محاولتهم للبهجة.
لاحظت أنها ذات الموسيقى وذات الأغنيات التي طاردتنى فى المنتجعات الفارهة التى دعيت فيها للعشاء، كما لاحظت أنها هى ذات الأصوات التي طاردتنى فى أفراح الأنجال من مختلف الفئات الإجتماعية.
ماذا جرى؟
لماذا أفتقدنا نظرات الألفة ودفء الوجوه؟
ما هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من بحيرة البجع فى حديقة الحيوان بالجيزة ؟
ما هذا البؤس الذى يحيط بالطرقات فيها، وما كل هذا الضجيج، وما كل هؤلاء الباعة الجائلين الذين يبدون مثل عتاة المجرمين؟
ما هذه الشراسة؟
وماذا جرى لجزيرة الشاى الرائعة؟
خرجت مندهشا حرينا كأن أحلامى القديمة في حديقة حيوان الجيزة قد أصبحت كابوسا مخيفا.
إستطاع البسطاء فى مصر عبر التعليم ونزهة حديقة الحيوان وشواطئ ميامى الجميلة الشعبية فى الإسكندرية وصوت أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وروايات نجيب محفوظ سهلة الفهم، وضحكات المهندس ومدبولى أن يعبروا المستحيل، وأن يربوا أجيالا رائعة.
كان المشهد شديد الإختلاف رغم تشابه الظروف الاقتصادية إلى حد كبير، لكن كانت الملابس الشعبية أجمل، والملابس البلدية بمثابة الزى الوطنى، كانت الموسيقى أجمل، كانت الأغنيات أرق، ولم نسمع أبدًا فى الغناء ما يمكن أن يصل بنا إلى هذا الكابوس الذى نسمعه فى أغنيات الإيقاع الواحد التى هى حرب كلامية ومدح فى السلاح الأبيض وتحذير من الضرب في الوجه.
كان الفقر فى مصر من نوع مختلف، يملك الأمل الذى دفع البسطاء لإمتلاك حس اولاد البلد رفيع المستوى وألفه فى الوجوه، وحساسية فى إختيار الملابس على ثمنها الزهيد.
تذكرت كل ذلك وأنا أفكر فى جدوى الكتابة عن دور مصر المحورى فى الثقافة والفنون والذى هو الدور الرائد والقيادى في المنطقة العربية.
ورحت اطرح السؤال على نفسى من جديد عن دور النخبة في إعادة وإستعادة ملايين المصريين من هذا الكابوس المزعج.
ما كل هذه الرداءة فى نوع الملابس وشكلها ونوع الموسيقى التى يتراقص عليها الأطفال، وكل مشاهد العنف والقسوة والضحك الخشن التى يراها معظم هؤلاء الذين لا يملكون القدرة على التعاطى مع إختيارات أخرى، ويخشون الاقتراب من دائرة دار الأوبرا المصرية بالجزيرة.
كانت الثقافة والفنون حاضرة وحامية رغم الفقر الاقتصادى، كنت أفكر فى الكتابة عن الدور الثقافى المصرى فى تعيين الأعداء والأصدقاء، كنت أفكر فى الكتابة عن العلاقة العكسية الضرورية التى تؤدى إلى نتيجة تكاميلة بين الفنون والثقافة من ناحية، وبين الاقتصاد والسياسة من ناحية أخرى، إلا أن ملاحظاتى فى تلك الجولات الاجتماعية، وخروجى مذعورا من حديقة الحيوان بالجيزة، دفعنى إلى إدماج سؤال الداخل فى الثقافة والفنون، رغم ضرورة الحديث عن هذا الدور المحورى العربى والاقليمى للثقافة والفن المصرى فى  مثل هذه الأوقات الصعبة والملتبسة على صعيد السياسة الدولية.
وهو التوقيت الذى علينا فى نحن الذين نقرأ ونكتب أن نعيد تعيين الأصدقاء والأعداء وأن ندرك أن هذه اللحظة هى اللحظة الضرورية التى يجب أن نذكر المصريين فيها بمن هو العدو ومن هو الصديق؟
إذ علينا أن نذكر أن الثوابت التاريخية الثقافية للشعب المصرى يجب أن لا تنسى فى هذه اللحظة الإنتصار الأكبر السياسى التاريخى، الذى جعل من تعاون الملك فيصل ملك السعودية مع شاه إيران عام ١٩٧٣ فى إستخدام سلاح البترول لتحقيق إنتصار أكتوبر العظيم ذكرى تاريخية ودرسا سياسيا، علينا التذكره به حتى لا يعلوه تراب النسيان.
وكذلك الانقسام الفلسطينى المؤلم إلى حماس ذات الطابع الإسلامي الذى يصفه البعض بالتطرف، بل والذى مـــــارس التطرف بالفعل، وبقايا منظمة التحرير الفلسطينية التى حملت القضية الفلسطينية على عاتقها.
وهو المأزق التاريخى الذى خرج منه النظام المصرى والرئيس السيسي بكل إقتدار، ورغم مشاركة حماس فى إقتحام السجون المصرية، وتحركها كذراع عسكرى لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، إلا أن مصر استعادت العلاقة الطبيعية مع طرفى الانقسام الفلسطينى حفظا للمعادلات السياسيــــــة الوطنية التاريخية.
إنه الدور الهام للثقافة والفن والإعلام الذى عليه التذكير بأن الجوار الإقليمى لتركيا وإيران لابد أن يظل جوارا صديقا، لأنه أيضا من الثوابت الوطنية التاريخية.
أما السلام فى السياسة والاقتصاد فهو لأهل السياسية والاقتصاد، وأما الحلم الأمريكى الجميل بالقيم الأمريكية عن الحرية والثراء والعلم وما إلى ذلك، فهى مسألة لا يمكن خلطها بأمور السياسية الطارئة، فلا شك فى أن المصريين يحبون السينما الأمريكية.
أما فلسطين الحبيبة وجوارنا الإقليمي التاريخى، فهى ثوابت ثقافية مصرية يجب أن تظل بعيدة عن أمور السياسة الطارئة ومغامراتها وأهدافها النفعية المباشرة، وفى هذه الإستعادة يجب أن يبقى الدور الثقافى الفنى المحورى المصرى حاضرا في الداخل والخارج، دور هام جدا كى يعبر بالفقراء والبسطاء والأغنياء وبنا جميعنا ومحيطنا العربى والإسلامي إلى آفاق المستقبل.
أنهم الأعداء فى الداخل والخارج ويجب على أهل الفن والثقافة والإعلام تذكير الناس فى مصر والوطن العربى بهم، أنه القبح فى الداخل ومحاولة جعل الأعداء فى خانة الأصدقاء وجعل الأصدقاء فى خانة الأعداء، ولذلك يجب أن تعود حديقة الحيوان بالجيزة إلى جمالها القديم، ويجب أن يكتب الرجال ويغنى الفنانون ويحلم الشعراء وتبقى أمور الحرب والسلام متروكة لأهل السياسة، بينما تبقى الثوابت الوطنية ضرورة حتى نمارس القراءة والكتابة والإبداع ونتنفس حب الوطن والمرأة والحياة.

google-playkhamsatmostaqltradent