د. حسام عطا
يبقى البوح الجماعي والفردي متاحاً جداً على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، والذي يصل بعضه إلى درجة من الحدة، وإلى درجات عنيفة من الاستقطاب.
وتبقى أسئلة عدة حول تغير ملحوظ في سلوكيات العديد من المصريين على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى العنف مع الذات والعنف مع الآخرين.
يشير البعض إلى الفنون والفكر ومراكز صناعة الوعي بأصابع الاتهام.
في ظل ظروف عامة من التغيرات الجذرية وأحداث حادة متكررة شهدتها مصر خلال السنوات القريبة الماضية.
وهكذا يصبح السؤال الضروري : ماذا جرى مجدداً للمصريين؟
أحداث متكررة تأتي أحدثها، وهى مأساة اغتيال الطالبة نيرة أشرف "رحمها الله رحمة واسعة" طالبة جامعة المنصورة على يد زميلها، كأحد أبرز الحوادث المأساوية الكاشفة عن عمق ما جرى من تغيير يطمر جوهر الشخصية المصرية، القائم على تسامح تاريخي وغفران إنساني نادر يفوض الأمر لصاحب الأمر ثقة في العدالة الإلهية، وعفواً عند المقدرة.
فهل الأمر يمكن اختزاله حقاً في تأثير الفنون والصور اللانهائية التي تدشن لقيم العنف والبلطجة والجنس والدم وحصد المال والثروة بأي طريقة أو وسيلة مشروعة كانت أم غير مشروعة؟
تابعت تلك الإشارات بكل أسى، رغم ما ساهمت بالكتابة وغيرها منتقداً تلك الصور الدرامية الخطيرة مراراً وتكراراً، إلا أن الإشارة لتأثير الدراما وصورها الذهنية السلبية في حدوث كل هذا العنف المجتمعي لها إشارة غير دقيقة تشير لأحد الأسباب، ولا تصل إلى جوهر المشكلة.
المشكلة بوضوح هي اضطراب الشخصية الحدية، وهى اضطرابات متكررة تحتاج للتأمل والدراسة من المفكرين والسياسيين وعلماء الدين وعلماء النفس وأهل الفن وبالتأكيد علماء الاجتماع، وعلماء الثقافة.
بعض من المختصين في التنشيط الثقافي وأسئلة الوعي وصناع المحتوى الإبداعي والإعلامي يعودون بالأمر مفسرين عدم قدرتهم على التأثير في الواقع لعجز أدواتهم أمام المنصات الإليكترونية والأفكار والرؤى المتحررة والحداثية وما بعدها، والتي تصل عبر الشبكة الدولية للمعلومات من كل أنحاء العالم، وما تحمله من أفكار وصور ذهنية تساهم في صناعة الاستقطاب الفكري والاجتماعي، والشعور بالإحباط أمام مشاهدة أساليب وطريق حياة مرفهة وممتعة وحرة في أماكن متعددة، وأمام ضيق فرص العمل وإمكانية التغيير المال المؤدي لتغير الحياة وهى حقيقة علينا إدراكها والتعامل معها.
وعدم قبول تلك المبررات التي يطرحها صناع المحتوى الدرامي والإعلامي، والتي يرونها غير قادرة على التأثير في الجمهور العام وخاصة الشباب منهم.
مما يعتبر اعترافاً ضمنياً بضرورة تطوير الأدوات وتغيير الأسس المعرفية التي تصدر عنها تلك الأعمال الإبداعية والإعلامية.
يجب أن نضع أيدينا على الأسباب الجوهرية الأصلية لهذا العنف الحدي ولتلك الاضطرابات المتعددة، والتي بعضها هلاوس وبعضها يأس إلى حد الاكتئاب، وبعضها هزيمة للذات النرجسية أمام الواقع وبعضها فراغ عقلي ووجداني مفزع.
دع المحددات الأساسية تظهر بوضوح ولذلك ربما يمكننا البحث في أصل المشكلة في :
أولاً : إعمال العقل
ثانياً : سيادة العلم
ثالثاً : صناعة الوجدان
أما إعمال العقل فهو يشمل داخله البعد الديني الإيماني المستند للعقل وللفهم الصحيح للدين، وعودة سلم القيم لطبيعته ليصبح الشريف المهذب المساهم في مجتمعه المخلص لعمله في قمة السلم الاجتماعي، وليس البلطجي الثري الذي يلجأ لكل الحيل للانتصار في الحياة اليومية.
أما سيادة العلم فهو أمر مرتبط بالحريات العقلية والاجتماعية والسياسية، ولعل الحوار الوطني المرتقب الذي ننتظره بكل اهتمام يساهم في تفريغ الخرافات والأوهام الداعمة للاستقطاب المجتمعي، وهو أمر هام جداً للاستقرار النفسي الجماعي للمصريين.
أما صناعة الوجدان فهي ضرورة هامة تبدأ باليقين الديني وتكتمل بتذوق الفنون، والقدرة على فهم الثقافة العامة وتحولها إلى سلوك يومي.
أعود مجدداً لتصوري عن ضرورة العلاج الجماعي عبر الحوار العام، والقدرة على حرية التعبير عن الذات.
ففي هذا السرد الجماعي للأحلام وللآمال وللألآم الفردية، والعامة، نوعاً من التطهير من المشاعر الضارة وإدراك حقيقي للواقع.
وجدير بالذكر أن تلك الحالات الفردية والتي يقع معظمها في دائرة المرض النفسي، ومنها حالة الشاب الذي قتل زميلته نيرة، فهي حالات مفزعة لكنها لا تقبل التعميم على إطلاقه كدلالة على الشخصية المصرية، ولا يمكن الإشارة إلى تلك الأمور أيضاً بقدر من التهوين.
ذلك أن التعايش مع أسرار ضاغطة وأحلام مجهضة هو أمر يعزز مشاعر الخزي وعدم اليقين والعزلة وعدم المصداقية ويساهم في خفض معدلات الصحة والعمل والسلام الداخلي.
فلماذا يتحول الحب الأول إلى جريمة قتل بشعة؟ بينما بقى لدى عدد من الأجيال ذكرى جميلة جداً، أيام رائعة مضت.
إنه حب من طرف واحد يمتلك عقل لم يفهم جيداً، ووجدان ضعيف مؤلم وعناد ورغبة مريضة في الامتلاك تدفع إلى القتل.
لا شك أن الثقافة هي صانعة السلوك، ولا شك أنها تراكمية الطابع، تأتي من المدرسة والأسرة والبيئة المحيطة ثم من الأعمال الفنية والمحتوى الإعلامي.
ولذلك فربما يكون من الظلم إلقاء اللوم على الأعمال الفنية والإعلامية كسبب وحيد، إلا أنها أيضاً مشاركة في تغييب قدرات البوح الجماعية وتعزيز الوجدان وتقيم المعايير الأخلاقية الداعمة لقدرة الفرد على التفاعل مع الواقع.
تبقى بلا شك الأغنيات الهابطة والقبح الدرامي وصور الذبح والقتل والرقص بالسكاكين والسيوف في الشوارع، وتجميل نموذج البلطجي القادر على حل النزاعات بالقتل السهل. وجمع الثروة من كل مجامع الفساد، وغياب الرقة، وضياع اللغة الراقية والسخرية من المهذبين والمثقفين والمتسامحين والمتفانين في أعمالهم، ودعم كل هذا الجنون في تراكم درامي متكرر، لتبقى مثل تلك الصور مدمرة ومساهمة في إحداث هذا الاضطراب النفسي الحدي.
لكنها ليست المتهم الوحيد، وإن كان الحل الحقيقي يبدأ من الكلمة السحرية الثقافة المصرية، وهى التي تحتاج لإرادة قوية وإبداعات مبتكرة، وقيادات ثقافية مخلصة، للحفاظ على الشخصية المصرية التاريخية السوية في عالم معاصر، وأول الطريق القدرة على البوح والسلوى والحكي والنقاش بحرية ومصداقية، ودراسة كيفية تحقيق التفسير الثقافي للحياة، لأن الثقافة تقدم التفسير للأزمات الخاصة والعامة، حقاً إن الثقافة مفتاح الحياة.
الثقافة حماية من المرض والجنون والجريمة والنصب والاحتيال والتطرف الديني والاستقطاب المجتمعي والسياسي والصعوبات الاقتصادية، لأنها وبحق تقدم تفسيراً للحياة فهل بالفعل نستطيع البدء في النظر نحو صناعات إبداعية وثقافية وإعلامية قادرة على التأثير الفعال في المجتمع المصري والعربي؟