بقلم د. حسام عطا
تبقى العلاقة بين السياسة والحرب والثقافة والقيم الإنسانية علاقة تناقض تاريخي، ولا شك أن مشهد استخدام القوة العسكرية في أوكرانيا مشهد مدهش للغاية في إطار عالم يعيد توزيع موازين القوى فيه.
ربما كان الرهان الأمريكي الغربي الأوكراني على أن الأمر لم يكن إلا تهديدًا روسيًا يستخدم الردع فقط.
ولأن الردع لم يلق بنتيجة ايجابية في إطار الاستراتيجية الروسية التاريخية تجاه الحدود، فإن التصاعد المرعب في التلويح أولًا من إدارة الرئيس بايدن بأن القوة العسكرية الأمريكية ستتدخل إذا ما خرج الأمر عن حدود أوكرانيا.
ورد وزير الخارجية الروسي لافروف بأن الحرب القادمة ستكون نووية بالتأكيد، لهو حوار مرعب، إن تجاوز حقًا مسألة الردع النووي وقياس النوايا.
ولذلك فإن الدعوة الأمريكية الغربية لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وحشد العالم في اتجاه قرار يدين روسيا؛ ربما لا يصبح الأمر الجدير بالمناقشة، واهتمام الدول في معظم أنحاء العالم.
ذلك أن روسيا خرجت بالقوة لتفعيل قوة الردع، وفي عالم جديد يملك في محاور عدة قدرات الردع النووي.
ولذلك يجب حقًا أن يكون المطروح على الأمم المتحدة سؤال الضرورة، ألا وهو: هل يمكن أن يتطور الصراع حقًا إلى استخدام القوة النووية؟
إن العودة للتفاوض والحوار والدعوة لحل المشكلات العالقة من القوى العظمى على مائدة الحوار السياسي؛ هي الضرورة الأهم الآن.
ولذلك يمكن فهم لماذا تبدو أطراف عديدة مسؤولة مندهشة حقًا من استخدام القوة بدلًا من التلويح بها.
لا شك أن بوتين- روسيا قد أضاف للصراع الدولي بعدًا جديدًا، هو تفعيل لقدرة الردع الروسي.
وفي هذا الأمر لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية، ولا الصين ولا كوريا الشمالية التي تسعى في اتجاه دعم روسيا؛ النظر لمسألة الحرب العالمية الثالثة نظرة جادة، وإلا أصبح الأمر إيذانًا ببدء دمار شامل للبشرية.
جدير بالذكر أن تقدير القوة الروسية الصاعدة ضرورة لوقف المزيد من العنف والدمار، ولعل موقف المنتصر والمهزوم فيما هو قادم ليس موقفًا صحيحًا.
ذلك أن الجميع خاسر فيما هو قادم من احتمالات جادة لاستخدام القوة المفرطة في الأيام القادمة.
ولذلك فموقف الإدارة المصرية الواضح يدعم السلم الداعي للسلم الدولي، موقف يعيدنا إلى الدور الضروري الآن للكتاب والمثقفين وقادة الرأي حول العالم، لإيقاف ما يحدث من دمار، ولمزيد من التذكير بضرورة إدماج الأخلاق الإنسانية في الإدارة السياسية.
إن دور الأمم المتحدة الآن يجب أن يتجاوز التفكير في كيفية إيقاف الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلى التأثير الفعال لمنع تفاقم الأوضاع على الصعيد الدولي.
ولعل تَفهم المطالب الروسية في تأمين مصالحها على حدودها، ليس هزيمة للمعسكر الغربي، إذا ما تَفهم رسالة روسيا في استخدام القوة استخدامًا واضحًا في إطار كونها وسيلة ردع، لكي يأخذ حلف الناتو المطالب الروسية بجدية واضحة.
رغم اختلافي التام مع استخدام القوة ومشاهد الدماء المروعة.
لا شك أن ما يجب إدانته بوضوح عالميًا هو قتل المدنيين وترويع الأطفال.
ولا شك أن مشهد الدبابات والآليات الروسية وهي تقف لا تتحرك أمام الحائط البشري من المدنيين الأوكرانيين، لهو دلالة سياسية يمكن فهمها، بأننا أمام قوة عسكرية لا تريد أن تخسر سمعتها الدولية، وتبدو صانعة للمذابح الكبرى، وليس في هذا دفاع عن روسيا، وإنما محاولة لفهم ما يجرى من أحداث مؤلمة.
إن عودة الحوار السياسي الجاد، يجب أن يضع في ذاكرته المأساة الإنسانية للأطفال في الحروب الأخيرة الحديثة والمعاصرة، أطفال البوسنة والهرسك، أطفال العراق واليمن وسوريا وفلسطين، أطفال الإيجور.. أطفال الحروب الأمريكية الأولى والثانية.. عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من الأيتام في الملاجئ العالمية.
إن أوكرانيا تذكرنا بضرورة تفعيل المادة الخامسة والعشرين من الإعلان الدولي لحقوق الطفل، الذي تم إطلاقه عام 1990، ومصر عضو في هذا الميثاق، وربما يمكننا أن نطلب من الدبلوماسية المصرية العريقة التذكير عالميًا بهذه المادة التي تنص على حماية الطفل والمرأة من كل المخاطر.
ربما بقى على الأطراف المتصارعة تذكر ميراثها الثقافي الإنساني العميق.. روسيا بوشكين وتشيكوف، وأمريكا أرثر ميللر ويوجين أونيل.
تذكر كل تلك الموسيقى والعمارة والمحبة التي أطلقت علينا سعادة غامرة.
إن تكاثر الأسلحة النووية والاتفاقات التي تحد من انتشارها يجب النظر إليها بجدية، في عالم لا يزال يحكمه العقل الإنساني الذي عانى ويلات القنبلة النووية الأمريكية في هيروشيما ونجازاكي، ومع ذلك يبقى استخدام القوة التقليدية على قسوتها هو طريق الردع في الصراعات المتعددة. وهو أمر يجب إعادة النظر فيه.
أما مسألة التهديد بالسلاح النووي مرة أخرى في عالم يواجه كارثة كبرى قادمة متعلقة بالمناخ والمياه ونقص الغذاء، لهو أمر مستحيل التصديق.
ويجب على العالم كله تفعيل قوة الدفاع الثقافية للتأثير على صناع قرارات الحرب.
إن النظرة العادلة لأطفال المستقبل في الأمم المتحدة، ولعدالة حق الإنسان المتوسط الطبيعي في الحياة ضرورة، ولعل نمو النزعات القومية عقب جائحة كورونا وتداعياتها ومستجداتها لهو أمر ملحوظ، ويقف وراء الصراعات المسلحة في مناطق متعددة.
فقد أوضح الإغلاق العام عقب كورونا، أن الأخطار تهدد القوميات كلًا على حدة.
ولعل التعاون الدولي المشترك في مسألة اللقاح والعلاج كان ضرورة في عالم لا يمكن العودة فيه للقوميات المنفصلة بذاتها، وأيضًا هو عالم لا يمكن الاستسلام لإدارته وفقًا للقطب الواحد.
إن إدراك ضرورة السيطرة على النزعات القومية المتصاعدة والتفاهم المشترك، ونزع السلاح الدولي، وتجريم استخدامه، وجعل من يستخدمه مجرمًا دوليًا عدوًا للإنسانية ضرورة إنسانية.
لا شك أن الدماء والأطفال والمستقبل يجب أن يصبحوا هدفًا مشتركًا، لأن الصراعات السياسية المستندة للقوة والمصلحة فقط، إن لم يتم تذكرتها بالقيم الإنسانية فستؤدي بالبشرية إلى عودة سحيقة لعدوان الإنسان البدائي.
حقًا إن الاستعداد للحرب يمنع وقوعها، وحقا إن إدراك الأطراف المتصارعة وهي إدارات سياسية، وليست شعوبًا بأكملها لمدى قدرات الأطراف المتصارعة ضرورة.
حقًا إن ما هو قادم محتمل وكنا لا نصدقه، ونراه مناورات سياسية عادية قد أصبح ممكنًا، ألا وهو اللجوء للاستخدام الفعلي للأسلحة النووية.
وهنا ما أحوجنا إلى عدالة توزيع الثروات البشرية، وما أحوجنا إلى الانتباه لخطورة هذا الأمر، في عالم لا يحتمل موجة حارة طويلة، أو موجة صقيع بارد مستمرة، ما أحوجنا لإدماج الثقافة والقيم الإنسانية في القرارات السياسية الدولية الكبرى التي لا يمكن تركها لإدارات سياسية لا تعد على أصابع اليد الواحدة، بينما تغيب الجمعية العمومية للثقافة الإنسانية، وهي القادرة على صناعة وحماية المستقبل وإعادة إنتاج السياسات الدولية بمزيد من الوعي والضمير الإنساني، من أجل العيش الضروري في عالم بات مشتركا وواحدا .