بقلم د. حسام عطا
سؤال تاريخي لشخصي المتواضع منذ اهتمامي بالثقافة والفنون، وهو إهتمام باكر أطل معه السؤال الملح ساذجًا بريئًا منذ سنوات طويلة، هل حقًا توجد صلة حية متوارثة بيننا نحن المصريين المعاصرين وبين الأجداد المصريين القدماء، أصحاب الحضارة الكبرى، أول حضارة في مهد الحضارات الإنسانية؟
واختلف السؤال منذ سنوات ماضية بعيدة بعد أن عرفت الفارق الكبير بين تعريف مصر الفرعونية ومصر القديمة، فأصبح السؤال واضحًا عن مدى اتصالنا الثقافي والسلوكي، وماذا في جيناتنا المعاصرة من المصري القديم؟
تعرضت لصدمات كبيرة في بحثي عن الإجابة، منها صدمات من بعض الباحثين في علم الإنسان "الأنثربولوجيا"، والذين بحثوا في الانقطاع الجيني عبر الزمن بالإشارة إلى الاختلاط الناجم عن قدوم أمم عديدة إلى مصر منذ الهكسوس ثم رحيلهم، ثم جنود روما، ثم مقدم العرب مع الإسلام، ثم مقدم الأتراك، ثم الفرنسيين، ثم الإنجليز، وما إلى ذلك من صياغات معروفة.
إلا أن ندرة التأثير الجيني لكل هؤلاء كان واضحًا أمام عيني وأنا أصافح وجوه المصريين يوميًا، وأشعر بلا شك أنها لا تختلف كثيرًا عن لوحات (وجوه الفيوم) الشهيرة ذات الطابع المصري القديم.
بل ولا تختلف إلى حد كبير عن وجوه هؤلاء الأجداد الذين تظهر ملامحهم على جدران المعابد المصرية القديمة، ذات الملامح المليئة بالطيبة والسكينة وحب الحياة.
أما الطرح الذي قمت بتأجيل مناقشته مع ذاتي متصديًا لكل الهجمات الجاهلة التي سمعتها على سبيل الترهات، فهي الإشارات الشفاهية التي ترددت عن كون الحضارة المصرية القديمة حضارة وثنية، تحتفل بالموت أكثر من الحياة.
وكنت أرد بأن مصر، وفي ظل الحضارة المصرية القديمة، شهدت تجليًا شهيرًا لنور الله عز وجل في طور سيناء، والكثير من رجال الدين وعلماء الآثار تحدثوا عن رسل وأنبياء في مصر القديمة، مطمئنًا إلى حديث القرآن الكريم عن رسل وأنبياء نعرفهم وآخرين لا نعرفهم، لكن القول المؤكد أن مصر القديمة عرفت التوحيد والبعث والحساب والقيامة.
أما آخر ما يتردد شفاهة فقد ناقشته مع عقلي معاودًا قراءة القرآن الكريم في حدود قدرتي الفردية على الفهم، لأجد أن الإشارة لمصر في كتاب الله الكريم عن انقطاع النعيم المقيم والكنوز عن آل فرعون، فرعون سيدنا موسى لا عن المصريين في عمومهم، والحديث عن الكنوز ورحيل آل موسى ثابت في القرآن الكريم.
إلا أن المصريين لم يرحلوا، وبقوا بمصر بلدهم، وهي الإشارة الأوثق وفقًا للتفسير الديني لاستقرار المصريين القدماء، وهو استقرار تؤكده الدراسات التاريخية الثابتة، شعب له وجود تاريخي على أرض مصر التي لم تتغير حدودها منذ مصر القديمة مهد الحضارة إلى الآن.
أطرح على عقلي مجددًا هذا السؤال مرة أخرى، وفي اعتقادي أن الموروث الثقافي المصري العابر للأجيال ساكن في جينات المصريين المحدثين، متصل فيهم عن أجدادهم المصريين القدماء.
والأمر الذي يدعم هذا الاعتقاد هو أن المصري المعاصر كفرد وجماعة مصرية معًا، يحقق الإنجازات المدهشة في ظل وجود وإتاحة ظروف موضوعية تسمح بالتميز والإنجاز.
وواحدة من تلك الإنجازات المصرية المعاصرة التي أتطلع إليها بكل اهتمام هي افتتاح المتحف المصري الكبير، والذي يعتبر واحدًا من أكبر متاحف العالم، وهو يسع وفقًا لتصريحات رسمية عن وزارة الآثار المصرية 100 ألف قطعة أثرية، تمثل مسارات الحضارة المصرية القديمة.
ويبدو أيضًا تميزه الذي جعل جهات الدنيا الأربع تتطلع نحوه، لأنه سيصبح مركزًا ثقافيًا ترفيهيًا سياحيًا، وأيضًا مركزًا للبحث العلمي وقبلة للأثريين من كل أنحاء العالم.
ومع هذا الحدث المهم على الصعيد المصري والعربي والإقليمي والدولي، هل جاء الوقت لتعزيز الصلات المهمة بين الحاضر والماضي، عبر إثارة ودعم الجين الثقافي المصري القديم؟
هل يجب النظر باهتمام للفنون المصرية القديمة عبر معالجتها برؤى معاصرة؟
هل يمكن تدريس مبادئ اللغة الهيروغليفية في مراحل التعليم العام كلغة إضافية دالة على التميز.
هل يمكن إتاحة إحياء كتب الفلسفة وتعاليم الأخلاق المصرية القديمة؟
بالتأكيد هذا لا ينزع مصر من تراثها الثقافي الديني، ولا من محيطها الجغرافي الذي أصبح اسمه الوطن العربي الكبير الآن، وفي كل بلد منه حضارة قديمة لا تتعارض مع كونه وحدة عربية ثقافية متصلة بالأهداف والجوار واللغة والدين والتاريخ والمصير المشترك؟
هل يقدم المسرح المصري على سبيل المثال مسرحية إخناتون البديعة للشاعر الكبير علي أحمد باكثير؟
هل من أفلام مصرية جديدة على طريق المخرج الكبير شادي عبد السلام ورائعته المومياء؟
هل يبحث الأثريون والموسيقيون عن أول من اخترع الموسيقى؟
هناك من يعتقد في أن النوتة الموسيقية المسيحية للكنيسة المصرية الأولى هي الأقرب للموسيقى المصرية القديمة؟
هل يمكن إعادة إنتاجها من تأمل شكل الآلات الموسيقية المصرية القديمة كما تحفظها لنا الآثار، لتُبعث من جديد حية في هيئة أوركسترا موسيقي مصري قديم، أعتقد كثيرًا في أنه كان يتم الاحتفال بوجود الأصوات البشرية الجماعية والفردية، كما يظهر في نص مسرحية انتصار حورس المصرية القديمة؟
أسئلة كثيرة يمكن طرحها في ظل ما يردده علماء الآثار المصرية بأن ما تم اكتشافه في مصر من آثار، يقل عما هو في باطن الأرض بأكثر من النصف قليلًا؟
هل تعود تلك الملامح المصرة القديمة في شوارعنا المعاصرة، وفي مسارات حضارية نزهو بها ونعيشها حية؟
ففي دورة حياة الأمم يعود المجد مرة أخرى بالإصرار على الاتصال الثقافي بالإرادة الأصلية.
وفي مصر يبقى اتصالنا بالإرادة المصرية القديمة ضرورة لمصر المعاصرة، التي تنظر للمستقبل بأمل وثقة، وفي اعتزاز واجب علينا أن نجعله ثقافة عامة ذات طابع جماهيري، يعرف فيه المصريون المحدثون أن أجدادهم المصريين القدماء بلغوا أوج المجد والحضارة والرخاء، بينما كان العالم يتأملهم بكل تقدير سعيًا للعلم والمعرفة، وهو أمر قابل للاستعادة رغم اختلاف الزمان.
وفي هذا الباب المشرق، باب الأمل والنور، أتطلع بكل فخر إلى إطلاق المتحف المصري الكبير، آملًا في أن أتمتع بالنظر إلى الأهرام من واجهته الزجاجية الرائعة، بينما أطالع مسار الحضارة المصرية العظيمة، والتي أتمناها تبعث حية معاصرة من جديد، هكذا نحلم وهكذا نتمنى.