بقلم د. حسام عطا
مرت الإشارة المنسوبة للرئيس الأمريكى جو بايدن، التي تم التصريح بها على لسان المتحدثة الرسمية للبيت الأبيض مروراً عاماً، إذ اعتبرها الكثيرون تعليقاً سياسياً على أزمة تكنولوجية كبيرة متعلقة بتعطل عمل فيس بوك لسبع ساعات، وكانت ملاحظته أن التعطل كشف عن أن "الإدارة الذاتية لا تعمل".
فما هي الإدارة الذاتية لأنظمة التواصل الاجتماعي الدولية؟
كان الاعتقاد السائد الذي ترسخ قبل حادث العطل المفاجئ، أن تقنية وسائل الاتصال الجماهيري هي نظام أو نسق مترابط الأجزاء، ومن ثم فلهذا النظام منطق داخلي يحكمه ويديره، بمعنى أنه يحمل داخله إدارة ذاته بذاته. وهي مسألة علمية نسبية الثبوت، يعرفها العاملون في مجال تكنولوجيا الاتصال معرفة حقيقية، ذلك أنه لولا ترابط أجزاء النظام التقني، ما أمكن تطوير نظام المعلومات.
ما جعلها من وجهة نظر بعض المفكرين المعاصرين من أمثال الكاتب الفرنسي جاك إيلول، سلطة حاكمة، فرغم وجود هوامش محدودة للاختيار في التعامل مع تطبيقات التواصل الاجتماعي، إلا أن شرطها الأساسي هو أن المستخدم يجب أن يعترف بأنه في حالة امتثال وقبول تام وتسليم بقانون النظام التقني في عملية التواصل العالمي على الشبكة الدولية للمعلومات.
بل وصل الاعتقاد في نظرية التكنولوجيا المعاصرة، إلى أنه لا توجد امكانية تدخل بشري في عمل نظام التقنية العالمية المعاصرة، وأنه على البشر قبول ذلك الأمر.
بل رأى بعض من المتأملين أن الاحتياجات الجديدة للبشر ذات الطابع التفاعلي، التشاركي، على هذا النطاق الواسع، لم يكن من الممكن وجودها إلا لأن التقنية أوجدتها، ولذلك فالنظام الاتصالي الرقمي قادر على تلبية تلك الاحتياجات والرغبات الإنسانية المستجدة.
وقد سبق سلطة وسائل التواصل الاجتماعي ملاحظات فلسفية ترصد ملامح عالمنا المعاصر، الذي هو بالفعل قرية واحدة، أولها إحلال الحاسبات الإلكترونية محل المخ البشري.
كما أن التقنية الرقمية ساهمت في تنامي النزعة الفردية، وانخفاض درجة الشعور الإنساني بالآخرين، فصار همهم تحسين دخولهم المالية، وتطوير المسارات المهنية الطويلة، ما رسخ اعتقاداً عاماً بأنه لا توجد خارج حدود العالم الرقمي حياة، وأن الشرط الوجودي للإنسان المعاصر هو شرط تماهيه وتفاعله مع العالم التقني.
حتى رأى البعض أن البقاء في عالم حر، بعيداً عن العالم الافتراضي الرقمي، بمثابة نفي من الوجود الإنساني، وشعور بالتخلف عن العالم المعاصر، والعيش في قرون ماضية.
وهكذا يمكن فهم تعبير الرئيس الأمريكي بايدن على نحو تأملي يعيد النظر في مسألة قدرة العالم التقني على إدارة ذاته بذاته.
ذلك أن العطل أثبت بكل جلاء الاحتياج الأساسي لتدخل العقل البشري، والأيدي الإنسانية والعقول الحقيقية لحل مشاكل وأعطال تقنية، لطالما اعتقد العالم أنها قادرة على إدارة نفسها بنفسها، كمنظومة تقنية مستقلة بذاتها عن العالم البشري.
ومما يؤكد جوهرية وأهمية ملاحظة جو بايدن عن العطل، والتي هي إشارة لا يمكن فهمها فهما عابراً، ألا وهي "الإدارة الذاتية لا تعمل"، أن التقنية لا يمكن الارتكان إلى أنها ذاتية الإدارة، وهو الأمر الذي يمكن إدراكه بوضوح في كافة الأمور التقنية الرقمية العالمية، من أنظمة المصارف الدولية، لأنظمة التسليح والدفاع المتطورة.
جدير بالذكر أن البيت الأبيض لم يترك الفرصة تمر دون العودة للاتهامات التي أطلقتها فرانسيس هوجان، المختصة المستقيلة من شركة فيس بوك، وهي التي وجهت اتهامات يوحي البيت الأبيض بضرورة الاستماع لها بجدية، عن خطابات الكراهية على فيس بوك، وعن حجم السلطة التي تم جمعها بالتدريج ويمكن بها التأثير على الرأي العام الدولي، وعن قدرة الشركة على إخضاع البيانات الشخصية للمستخدمين للدراسة والفحص، من أجل تحليل عمليات الذوق العام، وحركة تسويق السلع، وفهم وتحليل الرأي العام في معظم بقاع الدنيا، بل والتأثير عليه وإمكانية صناعتة، خاصة في أوقات الهدوء النسبية، بعيداً عن المواسم الانتخابية، وغيرها من الشؤون العامة، بالإضافة لأحاديث مخيفة عن إمكانية تسريب المعلومات الشخصية واستخدامها.
وهو ما يؤكد أن الواقع الحقيقي والعقل البشري والتواصل الحي والانتقال الواقعي عبر الزمان والمكان، هي شؤون لم تعد تاريخية أو قديمة، أو تنتمي للماضي، وأن الإنسان عليه أن يدرك بكل ثقة أن النظام التقني لا يدير نفسه بنفسه، وأن البشر لا يجب أن يستسلموا لذلك المجهول الذي يعطونه كل ما يطلبه وما لا يطلبه عن حياتهم ووجدانهم واعتقاداتهم، كما أنه يجب النظر بغضب للأمام، حتى لا نتحول في المستقبل القادم إلى أرقام وأشخاص افتراضيين بلا خصوصية، وبلا قرار عقلي، وبلا إرادة إنسانية.