بقلم/ احمد يوسف الحلوانى
باحث فى الشريعة الاسلامية
قَضِيَّة الْخِلَافِ فِي الذَّبِيح هَلْ هُوَ إسْمَاعِيلُ أُمَّ إِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِى مَسْأَلَةً لَيْسَتْ شَدِيدَة الخُطُورَة كَمَا يَظُنّ الْبَعْض وَهَى أَيْضًا لَيْسَت بِالْجَدِيدَة بَلْ خِلَافُ وَاقِعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْكِرَام مُنْذ الْقَدَم بَل وَبَيْن الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
لَكِنْ مَا دفعنى لِلْكِتَابَة فِي هَذَا الْمَوْضُوعُ هِى مُحَاوَلَة لِتَخْفِيف حِدَة الْجِدَال الدَّائِرُ فِي وَسَائِل التَّوَاصُل الاجتِمَاعِيُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الأخِيرَةِ بِقَضِيَّة كَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَت بِالْجَدِيدَة .
فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فلاشك إنَّهَا فَضِيلَةٌ وَمَنْقَبَة عَظِيمَةٌ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا لِإِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَن يَضُرّ الْمُؤْمِن شَيْءٌ ، فَهَذَا الْمَوْقِف مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَتَمَتَّع بِهِ إلَّا هَذِهِ الْأُمَّةِ المرحومة ، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ )
لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّ النَّاسَ ا
أَعْدَاء مايجهلون فَإِذَا أَتَيْت الْعَامَّة بِمَا لَمْ يألفوه وَلَم يأنسوه وَلَمْ يَعْرِفُوهُ ، استُطيروا غضباً ، وَكَأَنَّه خَرَقَ الْإِجْمَاعَ .
فَلَا ننسى أَنَّ أَصْلَ الِاخْتِبَار كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّ يَذْبَحَ ابْنِه وَفِى كِلاهُمَا ابْتِلَاء شَدِيدٌ ، وَقَدْ وَقَعَ خِلَافٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْدِيدِ أَيُّهُمَا كَانَ الذَّبِيحَ إسْمَاعِيلُ أُمَّ إِسْحَاقَ ، فَقَدْ عَدَّ القُرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ الشَّهِير سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَهَبُوا أَنَّ الذَّبِيحَ هُو إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُم الْفَارُوقِ عُمَرَ ، وعليّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وعبدالله بْنِ عُمَرَ ، وعبدالله بْنِ عَبَّاسٍ ، وعبدالله بْنِ مَسْعُودٍ ، وَجَابِر رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُم .
وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ وَلَيْس إِسْمَاعِيل – عَلَيْهِمَا الصَّلَوَات والتسليمات - لِذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَلَيْس إِسْمَاعِيل ، فَالْقَرَافِيّ يَسِيرُ فِي رِكَاب إمَامِه ، أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ .
وَمَعَ ذَلِكَ رَغِم أَنَّهُ يَقُولُ إنَّ الذَّبِيحَ هُو إِسْحَاقَ لَمْ يَمْنَعْهُ الإِنْصَافَ إِنْ يَذْكُرَ فِي كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَفْظ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إسْمَاعِيلُ ، وَهَذَا مَوْقِفٌ لاَبُدَّ أَنْ نَقِفَ عِنْدَه كَثِيرًا ونتعلم مِنْه ونفخر بِه ، كَيْف تَعَامَل الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ مَعَ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ ، فَهَا هُوَ الْإِمَامُ القرافى رَغِم أَنَّه يَجْزِم أَنَّ الذَّبِيحَ هُو إِسْحَاق وَلَيْس إِسْمَاعِيل لَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ يُؤَكِّدَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا إنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
لكِنَّنَا قَبْل عَرَض أَدِلَّة الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لاَبُدَّ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا لَا يضيرنا ، لَا يضيرنا أَنْ يَكُونَ الذَّبِيحَ إسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ .
والباحث الْمَجْد سَوْفَ يَرَى أَنَّ مُعظَّم مُحقِّقي المُفسِّرين عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ ، فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ، و لَوْ نَظَرْنَا فِي الْأَدِلَّةِ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ – وتجرَّدنا مِن الغُلو – والعصبية ، لوقفنا بِشَكْل وَاضِحٌ ، لَا نَقُولُ قَطْعِيٌّ ، لَكِن قَرِيبٌ مِنْ الْقَطْعِ ، عَلَى أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ . وَهَذِهِ عِبَارَةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ السُبكي فِي فَتَاوَاهُ ، قَرِيبٌ مِنْ الْقَطْعِ ، وَذَهَب إلَيْهَا السِّيُوطِيّ ، آخِرَ أَمْرِهِ ، فِي الْإِكْلِيلِ فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيل ، وأيضاً هِيَ عِبَارَةٌ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الطَّاهِرِ بْنُ عَاشُورٌ فِي التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِير ، قَرِيبٌ مِنْ الْقَطْعِ ! قَرِيبٌ مِنْ الْقَطْعِ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ ، الْأَدِلَّة الْقُرْآنِيَّة قَوِيَّةٌ جداً ، الَّتِي تشي بِأَن الذَّبِيح هُوَ إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ عِنْدِهِ تَمَهَّر وتمرس بِالْعَرَبِيَّة وَعِنْدَه ذَائِقَة لُغوية سَلِيمَة وَدَقِيقِه ، لَوْ كَانَ الغُلام الْحَلِيم الْمَذْكُور أولاً هُو إِسْحَاق ، لِمَ يُصرَّح هُنَا بِاسْمِه ؟ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) وَكَان حقيقاً أَن يُصرَّح بِاسْمِهِ فِي الْأَوَّلِ ، وَإِن يُشارَ إلَيْهِ هُنَا . لَكِنْ لَمَّا صُرِّح هُنَا بِاسْمِه ، وَقَال (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ )… عَلِمْنَا أَنَّهَا بُشرى ثَانِيَة ، وفعلاً الْقُرْآن يُؤكِّد أَنَّهُمَا بُشريان ، مُثنى بُشرى ، فِي الْعَصَا عصون ، وَفَتْوَى فتوان أَو فتويان ، وَهَكَذَا ! بُشريان : البُشرى بالغُلام الْحَلِيم ، والبُشرى بالغُلام الْعَلِيم .
قَالَ تَعَالَى (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) فَكَان التّبْشِير بِإِسْحَاق جَاء تثويباً أَو إثابةً لِإِبْرَاهِيم ، عَلَى مَاذَا ؟ عَلَى بخوعه لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَخُضُوعِه لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ، تُذْبَح ابْنَك يَا إبْرَاهِيمُ ؟ قَالَ لَك أَذْبَح ، إِذَا اللَّهُ أَمَرَنِي ، فَأَنَا أَذْبَح . وَاَللّهِ لَوْ أُمِر بِذَبْح نَفْسِه ، لَكَان أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ يَذْبَحَ وَحَيْدَة وَبِكْرُه ، الَّذِي أُوتِيَهُ فِي الْكِبَرِ ، عَلَى كَبَّر ! فَاَللَّهُ قَالَ لَهُ سنجزيك الْآن ، وَنُعْطِيَك نَافِلَة : إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ ! مِنْ بَابِ مَاذَا ؟ مِنْ بَابِ الْإِثَابَة .
قَالَ الشَّيْخُ الشنقيطي فِي الأَضْوَاء : أَعْلَم ، وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنْ الْقُرْآنَ الْعَظِيمِ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ ، عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا فِي (الصافات) وَالثَّانِي فِي (هود) ، أَمَّا دَلَالَةُ آيَات الصّافّات عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ وَاضِحَةٌ جداً فِي سِيَاقِ الْآيَات ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْ نُبَيْهِ إِبْرَاهِيم : وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عاطفاً عَلَى الْبِشَارَةُ الْأُولَى : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : فَبَشّرْنَاه بِإِسْحَاق ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّة ذَبَحَه يَقُول أيضاً : وبشرناه بِإِسْحَاق ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزِّه عَنْهُ كَلَامٌ اللَّهِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَام الْمُبَشَّرَ بِهِ أولاً الَّذِي فُدِي بِالذَّبْح الْعَظِيمُ هُوَ إسْمَاعِيلُ ، وَإِن الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ . لِأَنّ رُسُلُ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بَشَرَتُهَا بِإِسْحَاق ، وَإِن إِسْحَاق يَلِد يَعْقُوب ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنَّ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيم بِذَبْحِه وَهُوَ صَغِيرٌ وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمُ يَقِينٍ بِأَنَّه يَعِيش حَتَّى يَلِد يَعْقُوب . فَهَذِهِ الْآيَةُ أيضاً دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إسْمَاعِيلُ . .