بقلم ـ الدكتور محمد سيد الدمشاوي
تكاد كتب الأدب تجمع ـ سواء في مصادره القديمة أو مراجعه الحديثة إلا ما ندر منها ـ تكاد تجمع على أنّ شخصية جسّاس بن مُرّة هو ذلك القاتل المستهتر ، الذي أوقع قبيلته في الضياع والفناء ، وهو من أهلك أهله وعشيرته بفعلته غير المسؤولة التي راح ضحيتها كثير من أهله وقبيلته ؛ وأن القبيلة قد عانت من ويلاتها كثيرا ؛ فذهب أمنها ، وقُتِل كثير من فرسانها ورجالها ، وتَرمَّلت نساؤها ، ويُتِّم أطفالها ، وغدت تنتقل من مكان لآخر طلبا للبقاء والعيش دون راحة ، ودون أمن ، بل أصبحت بسببها مكروهة من معظم القبائل المجاورة خشية من أعدائها التغلبيين الذين هم أبناء عمومتهم في الأصل والنسب.
كما أنها تبرز عظم وقع الجريمة على أخته الجليلة بنت مُرّة التي خسرت بيتها وأبناءها من كليب بن وائل ، فوق خسارة زوجها الملك المتوج ، ومن ثم فقدها لمكانتها الاجتماعية المرموقة.
كما أظهرت شخصية جسّاس كنموذج للشؤم والطيش، ونموذج للسوداوية ؛ حتى وإن كان المثل قد التصق بالبسوس فقيل: " أشأم من البسوس" لكن البسوس هربت بفعلتها ، وبقي جساسٌ لينال وحده الّلوم والعتاب والنبذ ، وكيف لا وهو الذى جنى بفعلته على أهله وعشيرته كما هو معروف.
ولعل الذي شارك في توصيل هذه الرؤية وهذه الصورة عن جساس كون خصومه من الشعراء الفحول ، ومن هؤلاء وعلى رأسهم امرؤ القيس، أشعر شعراء الجاهلية ، فأمه فاطمة بنت ربيعة التغلبية أخت كليب ، ومنهم المهلهل بن ربيعة ، شقيق الملك المقتول كليب ، ومنهم عمرو بن كلثوم وهو ابن ليلى بنت المهلهل ربيعة ، فضلا عن جليلة بنت مرة زوجة كليب ، وهي وإن كانت أختا لجساس ، إلا أنها أصبحت عبئا على قضيته ، شاءت أم أبت ، وصراخها الشعري عن الفقد والخراب كان يغذي هذه الرؤية بلا شك ، ، والشعر هنا يعد أكبر أجهزة الدعاية الإعلامية وترويج الأفكار عند القبائل العربية القديمة ؛ ناهيك عن خصومه في سلطة الحكم التي بإمكانها استغلال هذه الدعاية كما تريد.
ومن ثم لم تقف كتب الأدب على شخصية جساس الرافض للضيم ، المدافع عن الجار ـ البسوس ـ الثائر لكرامة قبيلته من استبداد كليب وتسلطه ، ووقفه لمشاريعه التسلطية التي كادت أن تحيل قبيلة بني بكر ( قبيلة جساس ) عبيدا أذلاء خاضعين لهيمنته بعد أن استبد بالأمر ، وأحال موقع القبيلتين مركزا لسلطته المنفردة ، وأذاقهم مرارة الذل والظلم كثيرا حين منع أنعامهم الماء ، وضيق عليهم في عيشهم ، وتعالى عليهم وهم أبناء عمومته ، وأمات كل الأصوات المعارضة لمشاريعه التي كان يحلم بها ، وهو أمر لم تألفه العرب ، فالحرية كانت أغلى ما يطلبه العربي ، ويقاتل من أجله ، ولم يفلح الملوك في هذه الفترة أن يخضعوه لما يسمى بالإمارة أو المملكة إلا أياما معدودات ، رغم الدعم الخارجي الكبير من الفرس ومن الروم ، ولذا كان القتل نهاية لمعظم ملوك هذه الفترة .
بل إن الكلثوميين أنفسهم ( نسبة إلى كلثوم والد عمرو بن كلثوم ) قتلوا ثلاثة من الملوك المشهورين في هذه الفترة ـ على كثير من الروايات ـ منهم عمرو بن هند ، والمنذر بن النعمان.
بل لم تقف كتب الأدب على أنه شاعر ، ولم تذكر من شعره شيئا ، تماما مثلما تجاهلت كثيرا من أشعار الصعاليك والفتاك ، ولم تقف على كونه واحدا من الفرسان القلائل الذين توفروا في هذه الفترة ، ولم تر منه سوى صورة المارق ، الأحمق ، المستهتر، المشؤوم ، المعتدي ، فلم تسجل هذه الكتب في سردها لأيام العرب صفحاته المشرقة في قتال التغلبيين ، وبطولاته المشهودة رغم أنه قتل خمسة عشر فارسا من أهم فرسان التغلبيين ، وهذا تزييف مبكر لتاريخ العرب الأوائل من قبل السلطات القبلية بأعرافها المعهودة ، ومن مؤرخي الأدب الذين ساروا على نهج الأعراف القبلية المعهودة ، فأهملوا البطولات الفردية لحساب البطولات الجمعية ، أو أهملوا الفرد مهما كان موقفه وموقعه لحساب القبيلة حتى وإن كان فيه إجحاف لحقه ؛ سيرا وراء الأعراف الراسخة في النظام القبلي العتيد ، لا سيما إذا كانت البطولات الفردية غير مرضي عنها كما هو الحال في بطولات الصعاليك ، حيث لم يسجلها المؤرخون إلا من منظور السخرية بأحوالهم وفقرهم وحاجتهم أو التسلي بحكاياتهم ، ولم يصوروهم أبدا ناقمين على ظلم القبيلة وسيطرتها واستبدادها ، ولم يصوروهم كناقمين على العنصرية البغيضة التي بني عليها البنيان القبلي ، وإنما سجلتهم كتب الأدب على أنهم شطارٌ ولصوصٌ وفتاكٌ وقاطعو طرقٍ وأصحابُ جرائر ومنبوذون ، ولهذا لم يكن غريبا أن يطلق على جساس بن مرة لقب ( الفاتك ) وهو اللقب الذي لازم الصعاليك أيضا كبديل للقب الفارس عند المرضي عنهم من أبناء القبائل.
وقد يقول قائل إن جساسا لم يكن بعيد النظر في قتله للملك كليب ، وأنه بهذا جر الهلاك على قومه ، لكن الأمر يبدو غير ذلك إذا أدركنا طبيعة العربي القديم ، وأدركنا فكره وثقافته ؛ حيث لا يصح قياسها بحسابات هذا الزمان ، ثم إن الحسابات الثورية الرافضة للضيم والذل والمطالبة بالحرية لا يهمها الحسابات العقلانية كثيرا ، وهي تعلم أن الحرية لها أثمان غالية لا بد من دفعها في طريق التحرر ، ثم إن مفهوم الحرية عند العربي القديم يسبق كثيرا مفهوم الحياة مع الضيم ، كما جاء فيما نسب لعنترة بن شداد من قوله :
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ .... بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَيــــــــاةِ بِذِلَّـــــةٍ كَجَهَنَّمٍ .... وَجَــهَنَّـــــمٌ بِالعِـــــزِّ أَطيَــــبُ مَنــــــــزِلِ
ثم إن التغلبيين كانوا مفتونين بالفخر والتعالي والكبر والغطرسة ، وهذا يتضح كثيرا من أشعار الفخر لديهم ، كما نجد ذلك في أشعار المهلهل بن ربيعة ، ونجده أيضا في معلقة عمرو بن كلثوم التي جعلوا منها شعارا لهم في الفخر والتعالي على غيرهم ، ولعل هذا ما لخصه الشاعر القديم بقوله :
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ....قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ومثل هؤلاء لم تكن لتستقيم معه حياة البكريين المجاورين لهم بأي حال من الأحوال .
وحتى بحساب بعد النظر أيضا فقد كان في مقتل كليب زوال تام لهذا الكبر والتعالي والمُلْك الجائر، وفيه نهاية لتلك الغطرسة ، وفيه نهاية للضيم الذي لحق ببني بكر من قِبَله مرات عديدة ، وسكتوا عليه أكثر من مرة ، وهي النتيجة المرجوة والمأمولة لجساس ومن على شاكلته من الأحرار الرافضين للضيم مهما كانت التضحيات ، فضلا عن أن خسارة التغلبيين كانت أكبر بكثير من خسارة البكريين في نهاية الحرب.